Sunday 15 August 2010

الشرق الاوسط 15-8-10

و القبور الباكية

خالد القشطيني

استعرضت في مقالتي السابقة شيئا عن القبور الضاحكة، وهي قبور الغربيين. عندنا في الشرق القبور تبكي كما يبكي الأحياء. ينطبق هذا بصورة خاصة على المقابر العراقية ، فهي تمثل خير تمثيل رواح الاكتئاب و الملانخوليا التي يتسم بها الظمير البابلي. هناك في مقبرة شيخ معروف في جانب الكرخ من مدينة بغداد شاهد قبر يستجدي دموع المشاهد و كأن الدفين مازال في حاجة اليها بعد كل الدموع الغزيرة التي ذرفها و شهدها في حياته. يقول الشاهد:
يا قاريء كتابي ابك على شبابي
بالأمس كنت حيا و اليوم في التراب
و هذا كله شيء يسير و معقول بالنسبة للوحة الشاهد التي تتجاهل القاريء وتخاطب الديدان و البكتيريا فتقول :
يا دود! يا دود!
اكل لحمي و عظمي و خلي عيوني السود.
صورة سريالية اصيلة تجاوزت كل نواح غلغامش في تك الملحمة الشهيرة يوم راح الملك البابلي يبكي على صديقه انكيدو. لوحات القبور الفرعونية كلها عز وفرفشة و بنات حلوات.و لكن ليس شواهد القبور البابلية كهذه اللوحة التي عثروا عليها في الهند و تعود للألف الثالث قبل الميلاد. :
" هنا يرقد آنور زركال. رجل من مدينة اوروك. هرب مما عاناه من ظلم . جاء حافي القدمين رث الثياب. مات غريبا في هذا المكان."
لا جديد تحت الشمس بالنسبة لمن يعيش في بلاد الرافدين.
قدر لي ان اشاهد قبرا في مقبرة باب المعظم من بغداد. فيما كان الميت قد آوى في قبره و استراح من هذه الحياة ، انفجر اصحابه و ذووه في معركة ضارية بشأن ما هو مكتوب على شاهد القبر. " هنا يرقد الدكتور فلان ابن فلان الحائز على شهادة الدكتوراه من جامعة هارفرد والليسانس من جامعة الصوربون و البلكلوريوس من ريجنت بوليتكنك، بلندن ... الخ. عجبت من امره و امر هذا الشاهد. انا افهم ان عالمنا العربي ، عالم من ورق . كل شيء يه يتوقف على ما بيدك من اوراق و شهادات و دولارات. تتباهي بها عندما تكلم اصحابك في المقهى او تخطب امرأة للزواج او تسعى لوظيفة ، و لكنني لم اتصور انك تحتاجها عندما تموت و تكتبها على شاهد قبرك. سألت نفسي، يا ترى هل وضعوا هذه الشهادت معه في التابوت ليبرزها لملك الموت ويطالب بمراعاته بإمتياز ومعاملته معاملة خاصة؟ ربما تأملوا ان تنفعه في الآخرة في الحصول على مكان افضل في الجنة... او النار.
فيما كنت افكر بكل ذلك، انفجرت معركة بين الحاضرين كما قلت. " عيب عليكم! تقولون عنده دكتوراه من هارفرد! شهادته هذي كانت مزورة. يعني تريدون تكذبون حتى على الله سبحانه و تعالى."
رد عليه اخو الميت: " اسكت كلب! هذا كلام البعثيين. يتهمون الناس بالتزوير لأن هم ما عندهم شهادات. "
" لكن إحنا مو خونة مثل اخوك اللي اشتغل للسي آي أي و اعطوه شهادة مزورة."
بهذه الكلمات فقد الطرفان السيطرة على اعصابهم فهجموا بعضا على بعض و دارت معركة ضارية تعالى في سمائها تراب القبور ، فأخذت طريقي الى الباب متسائلا، كم من صدق او زور يا ترى في كل هذه الشواهد التي مررت بها؟

No comments: