Sunday 8 August 2010

الشرق الأوسط 8-8-10

في ذكرى الدروبي

خالد القشطيني

من المعتاد للعراقيات ان يحيين ذكرى موت ازواجهن بمأتم صاخب يكثر فيه النحيب و البكاء و اللطم. ينتهي بوليمة سخية من الأطعمة التي كان المرحوم يحبها. يأكلن الدولمة و المحشي ثم يخرجن من البيت و يبدأ التجريح. " يا عيني ولا مبين عليها الحزن! دمعة دمعتين و سكتت. لطمت على صدرها نص دقيقة و بطلت."
" شتتوقعين يا ام حسين؟ المرحوم شيعي و هي سنية. و ما تنسين يا عيني، السنة ما يحسنون اللطم و البكا مثلنا".
بيد ان السيدة سهيلة الدروبي لم تحتفل بذكرى زوجها، استاذنا الرسام حافظ الدروبي، بمأتم. الفنانون لا يموتون. احتفلت بذكراه بمعرض لبعض اعماله الحية المتواجدة في لندن. لم اتتلمذ على حافظ و لكنني عرفته مرارا ضمن نشاطاتنا الفنية و زياراته المتكررة لبريطانيا. فحكى لي كيف تلعب الأقدار دورها في حياة العراقيين. ادرك مبكرا ان التعاطي بالفن افضل من التعاطي بالسياسة في العراق ، و حتما افضل من الاعتماد على الكتابة. و لكنه رحمه الله تطلع للمسرح و ليس للفرشة والاصباغ. و ليقنع مدير المعارف سامي شوكت بابتعاثه لدراسة المسرح في اوربا، قدم مسرحية عن البطولات العربية قام فيها بدور بشر ابن وائل في مصارعة الأسد و دعى اليها السيد المدير. بالطبع قتل العراقيون آخر اسد عندهم في القرن التاسع عشر و لم يبق في البلد اي اسود و حلت محلهم الثعالب و الغربان. جاؤا بكبش ذي قرنين مخيفين ليمثل دور الأسد. تضمن الأخراج دخول الدروبي الى المسرح بدشداشة بيضاء وسيف عتيد، وينشد القصيدة الشهيرة:
افاطم لو شهدت ببطن خبت وقد لاقى الهزبر اخاك بشرا
اذا لرأيت ليثا زار ليثا هزبر اغلبا لاقى هزبــــرا
كان الخروف قد دخل المسرح من اليسار ، و لكن يظهر انه لم يكن من عشاق الشعر العربي ، او ربما لم تعجبه تلاوة حافظ الدروبي للقصيدة فهجم عليه و نطحه من الخلف نطحة القت بها خارج المسرح فسقط في احضان المديرالعام. ضج المشاهدون بالضحك. فهنأه المدير على اختيار المسرحية و قال له ان الخروف كان اروع من قام بدوره فيها . ثم دعاه ملاطفا لتناول الشاي معه في مكتبه. وهناك توسل به ان يعطوه بعثة لدراسة المسرح . أجابه سامي شوكت بأن هذا لم يعد ممكنا فقد ابتعثوا حقي الشبلي لدراسة هذا الفن في فرنسا. و ما يصلح للعراق ان يكون فيه اكثر من ممثل واحد. أجابه حافظ: " اذن فابعثوني لدراسة الرسم. فأنا ارسم ايضا." اجابه قائلا : ارنا ما عندك .
انهمك استاذنا الفاضل برسم عدد من التصاوير و اقام معرضا صغيرا لها ، دعى اليه السيد المدير و معالي وزير المعارف. و لم يكن في بغداد عندئذ ناقد فني ينبري في الكتابة و يخرب على حافظ الدروبي فرصته و يدمر له مستقبله. فرشحه الوزير لدراسة فن الرسم في ايطاليا ثم اكمل المشوار في بريطانيا و عاد لتدريس الفن و استلام عمادة اكاديمية الفنون الجميلة في بغداد قبل ان يمزق عملها المتشددون من الاسلامجية. فنم رغيدا في مثواك يا استاذنا الجليل و لاترى ما حل ببلدك و نهضتك الفنية من الخراب.

No comments: